ثانياً: التجربة البرلمانية الفلسطينية خلال فترة الانتداب البريطاني (1917 – 1948)

   بعد انهيار الحكم العثماني في المنطقة العربية، وُضعت فلسطين تحت نظام الانتداب البريطاني سنة 1917، وقد شكّل صك الانتداب الذي وضعته بريطانيا – كدولة منتدبة على بلادنا فلسطين- وأقره مجلس عصبة الأمم, والدستور الذي صدر في 10/8/1922, وتعديلاته التي أُجريت بعد ذلك في 4/5/1923 وفي 7/2/1932 المرجعين القانونيين للبلاد، حيث تضمن الدستور اشتماله على إنشاء مجلس تشريعي لفلسطين وقد نشرت حكومة الإنتداب في الصحف المحلية إيضاحاً لهذا المجلس التشريعي يمكن إيجازه بما يلي[1]:

1-    ليس للمجلس التشريعي سلطة تنفيذية مطلقا.

2-    ليس للمجلس التشريعي سلطة بمناقشة أي قضية تخالف سياسة حكومة الإنتداب لاسيما المسائل المتعلقة بتمهيد الطريق لإنشاء وطن قومي لليهود.

3-    تنفيذ قرارات المجلس يتوقف على إرادة المندوب السامي.

4-    يتألف المجلس من 11 عضو من موظفي الحكومة و12 عضوا منتخب (للعرب عشرة مقاعد ولليهود مقعدين) ويكون برئاسة المندوب السامي الذي يكون له صوتان.

5-    تشكيل لجنة لبرلمانية لمراقبة الهجرة وبالتنسيق مع الحكومة وتكون مقيدة بأنظمة وينفذ قراراتها بقرار من المندوب.

     وبالتالي يستنتج مما تقدم أن صلاحيات المجلس التشريعي التي وضعتها سلطات الانتداب, كانت محدودة ومقيدة, ومرهونة بإرادة المندوب السامي, فقد كان له الحق في توقيف أعمال المجلس وحلّه, ولا يُعمل بأي قانون يصدر عنه إلا بعد موافقة المندوب السامي وتوقيعه عليه.

   وبالرغم من ذلك, فقد منحت فكرة وجود مجلس تشريعي منتخب بارقة أمل لدى المواطنين الفلسطينيين, حيث ساد الاعتقاد بأنهم سيتمكنون من الحصول على أغلبية المقاعد في المجلس التشريعي, باعتبارهم يشكلون الأغلبية المطلقة للسكان في الأراضي الفلسطينية, وسيكونون سلطة تشريعية معترفاً بها إلا أن بارقة الأمل تلك سرعان ما تبخّرت وتلاشت بعد أن شرعت الدولة المنتدبة بالتلاعب بالأنظمة الانتخابية, لتتمكن من خفض عدد الأصوات العربية, وذهبت في ذلك بعيداً, حيث سنّت قانوناً يفرض الجمع بين التعيين والانتخاب في عضوية المجلس التشريعي[2], وبهذا ضمنت أن تكون الأغلبية فيه إلى جانبها بذلك بات من الواضح أن المجلس التشريعي سيكون مرهوناً بإرادة المندوب السامي, وسيكون أعضاؤه من النواب أشبه "بشهود الزور" يشهدون على عملية هي في ظاهرها ديمقراطية, أما في جوهرها فهي لا تحمل أي مضمون ديمقراطي, وقد أدى هذا إلى مقاطعة العرب عملياً لانتخابات المجلس التشريعي.

   وفي محاولة لجذب الفلسطينيين للمشاركة في الانتخابات, أعلن المندوب السامي في العام 1922 عزمه على إجراء انتخاب الأعضاء العرب[3], وليس تعيينهم في المجلس التشريعي المنصوص على إنشائه في دستور البلاد, لكن الثغرة الأساسية بقيت متمثلة في كون مجموع الأصوات العربية داخل المجلس سيظل أقل من النصف، لذلك أصدرت اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني الخامس الذي عقد في نابلس في 20-25 آب/أغسطس عام 1922 بياناً يرفض هذا المجلس, وبمقاطعة انتخابات عام 1922.[4]

   وبالفعل, أتت المقاطعة أُكُلها وتمت المقاطعة بالإجماع تقريباً, فلم يظهر من جميع العرب في فلسطين سوى (83) مرشحاً ثانوياً, علماً أنه كان من المتوقع أن يصل عدد المرشحين إلى (600) شخصاً ممن ترضى الأمة عن ترشيحهم, فقامت الحكومة بتمديد مهلة الترشيح أسبوعاً كاملاً, إلا أن عدد المرشحين بقي (83) مرشحاً[5], وهكذا فشلت الانتخابات وهي في مرحلتها الأولى, فأصدر المندوب السامي قراراً بإلغاء الانتخابات في 30/5/1923.

    ورداً على هذه الخطوة أصدر المندوب السامي قراراً بتاريخ 30 أيار 1923 بالعدول عن إجراء انتخابات المجلس التشريعي وتأليف مجلس استشاري بالتعيين وهذا نص المنشور الصادر عن المندوب السامي[6]:

"حيث أن السواد الأعظم امتنع عن الاقتراع وترشيح أعضاء المجلس التشريعي استقر قرار الحكومة البريطانية على توقيف الجزء الخامس من مشروع الدستور بإنشاء المجلس التشريعي وتجيز للمندوب السامي العمل بهذه الفترة بمشورة مجلس استشاري وقد تقرر تعيين هذا المجلس من ثمانية أعضاء مسلمون وعضوان مسيحيان أما العضوان اليهوديان فيعينان بعد استشارة اليهود الذين انتخبوا في الاقتراع الأخير".[7]

    وبالتالي ولكل ما تقدم تشير الوقائع التاريخية إلى أن الأرض الفلسطينية لم تشهد انتخاب مجلس تشريعي خلال الحقبة البريطانية إلا أنه بذلت محاولات لإفراز مجلس تشريعي منتخب ولكن باءت بالفشل بسبب تعنت الانتداب البريطاني من خلال سعيه لإنتاج مجلس تشريعي صُوري وتفريغ المجلس من دوره الحقيقي, وبالرغم من محاولات سلطات الانتداب البريطاني لانتخاب ما سُمي بـِ "المجالس الاستشارية والتشريعية" فقد فشلت المحاولات ولكن الشعب الفلسطيني وقياداته, عملا على إقامة تشكيلات وأطر بديلة منذ بدايات الانتداب البريطاني.





[1]- أنظر: عيسى السفري، فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية، مكتبة فلسطين الجديدة بيافا 1937،  ص85.

[2]- أنظر : قريع مرجع سابق ، ص15.

[3]- مرفق مرسوم انتخاب المجلس التشريعي لسنة 1922 الصادر عن المندوب السامي البريطاني.

[4]-  أنظر عيسى السفري، مرجع سابق، ص86.

[5]- أنظر قريع – مرجع سابق –ص16.

[6]- أنظر السفري- مرجع سابق – ص86.

[7]- شهدت هذه الفترة – 30 عاما – نشاطا تشريعيا واسعا، الأمر الذي أفرز تشريعات متعددة في مختلف المجالات في فلسطين. كما ظلت القوانين العثمانية السارية المفعول حتى عام 1917 قائمة مع مراعاة ما جرى عليها من تعديل أو استبدال بموجب قوانين الانتداب البريطاني، وقد أعادت حكومة الانتداب تشكيل النظام القانوني بتحويله من النظام العثماني اللاتيني إلى النظام الانجلوسكسوني (القانون المشترك البريطاني).

وفي عام 1933 كلّف روبرت هاري درايتون المسمى آنذاك بـ " مدوّن حكومة فلسطين " بجمع وتحرير تشريعات الانتداب البريطاني في ثلاثة مجلدات، وقد تضمن هذا العمل جمع وفهرسة القوانين والمراسيم والأنظمة والأصول...الخ الصادرة في فلسطين والقوانين والمراسيم الملكية البريطانية التي طبقت فيها.

وقد لوحظ تركيز الجهد التشريعي خلال حقبة الإنتداب البريطاني على تعديل قوانين الأراضي لخدمة الوجود البريطاني وتمهيد الطريق لنقل اليهود.